فصل: (بَابُ التَّدْبِيرِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.بَابُ الْعِتْقِ عَلَى جُعْلٍ:

وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَإِنَّمَا يُعْتَقُ بِقَبُولِهِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ إذْ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَمِنْ قَضِيَّةِ الْمُعَاوَضَةِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِقَبُولِ الْعِوَضِ لِلْحَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ حُرًّا، وَمَا شَرَطَ دَيْنٌ عَلَيْهِ حَتَّى تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ، بِخِلَافِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ قِيَامُ الرِّقِّ عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمَالِ يَنْتَظِمُ أَنْوَاعَهُ مِنْ النَّقْدِ وَالْعَرَضِ وَالْحَيَوَانِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ فَشَابَهَ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَالصُّلْحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَكَذَا الطَّعَامُ وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ، وَلَا تَضُرُّهُ جَهَالَةُ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّهَا يَسِيرَةٌ.
الشَّرْحُ:
بَابُ الْعِتْقِ عَلَى جُعْلٍ: الْجُعْلُ بِالضَّمِّ مَا جُعِلَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ يَفْعَلُهُ، وَكَذَلِكَ الْجِعَالَةُ بِالْكَسْرِ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ لِكَوْنِ الْمَالِ غَيْرِ أَصْلٍ فِي بَابِ الْعِتْقِ (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ) أَيِّ مَالٍ كَانَ مِنْ عُرُوضٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ غَيْرِهِمَا (مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ) أَوْ عَلَى أَنَّ لِي عَلَيْك أَلْفًا أَوْ عَلَى أَلْفٍ تُؤَدِّيهَا أَوْ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفًا أَوْ عَلَى أَنْ تَجِيئَنِي بِأَلْفٍ (فَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ) سَاعَةَ قَبُولِهِ.
لَا يُقَالُ كَلِمَةُ عَلَى لِلشَّرْطِ فَيَكُونُ الْعِتْقُ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ أَدَاءِ الْأَلْفِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا لَا لِمَا قِيلَ إنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ لِلشَّرْطِ إذَا دَخَلَتْ فِيمَا يَكُونُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْأَعْيَانِ لِأَنَّ بَعْضَ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ دَخَلَتْ فِيهِ عَلَى الْأَفْعَالِ، بَلْ لِمَا قِيلَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا كَانَ مُرَادُهُ التَّنْجِيزَ بِعِوَضٍ لَا التَّعْلِيقَ فَكَانَ الصَّارِفُ عَنْ الشَّرْطِيَّةِ دَلَالَةَ الْحَالِ (وَإِنَّمَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ بِقَبُولِهِ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ إذْ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ) فَقَوْلُهُ إذْ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً بِغَيْرِ مَالٍ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدَهَا أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ لِأَنَّهُ مَالٌ فَلَا يَمْلِكُ الْمَالَ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ كَانَ مَا بَذَلَهُ مِنْ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُهُ؛ فَكَانَ مَا بَذَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَالِ وَالثَّانِي الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِمَا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ سَقَطَ مِلْكُ الْمَوْلَى فِي ذَاتِهِ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ بِبَيْعِ نَفْسِهِ مِنْهُ فَكَانَ مَا بَذَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ.
ذُكِرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ، وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَوْلَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ فَكَانَ مَا بَذَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ عِنْدَ الْمَوْلَى.
وَالثَّالِثَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ بِهَذَا الْعَقْدِ لِكَوْنِهِ إسْقَاطًا فَلَمْ يَدْخُلْ بِهِ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ.
غَايَةُ مَا يُقَالُ إنَّهُ ثَبَتَ لَهُ بِهِ قُوَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَالٍ لَا مَحَالَةَ، فَكَانَ مَا بَذَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ بَلْ مَا هُوَ قُوَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْهُمَا.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فَمِنْ قَضِيَّةِ الْمُعَاوَضَةِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِقَبُولِ الْعِوَضِ لِلْحَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ حُرًّا، وَإِنْ رَدَّ أَوْ أَعْرَضَ عَنْ الْمَجْلِسِ بِالْقِيَامِ أَوْ بِالِاشْتِغَالِ بِمَا يُعْلَمُ بِهِ قَطْعُ الْمَجْلِسِ بَطَلَ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ مَا شَرَطَ دَيْنًا عَلَيْهِ حَتَّى تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ لِأَنَّهُ يَسْعَى وَهُوَ حُرٌّ، بِخِلَافِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ حَيْثُ لَا تَصِحُّ بِهِ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ قِيَامُ الرِّقِّ، فَكَانَ ثُبُوتُهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، إذْ الْقِيَاسُ يَنْفِي أَنْ يَسْتَوْجِبَ الْمَوْلَى الدَّيْنَ عَلَى عَبْدِهِ، فَلَمَّا ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ضَرُورَةُ حُصُولِ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُكَاتَبِ وَحُصُولُ الْمَالِ لِلْمَوْلَى اقْتَصَرَ عَلَى مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْكَفَالَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمَالِ يَنْتَظِمُ أَنْوَاعَهُ مِنْ النَّقْدِ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ.
وَقَوْلُهُ (فَشَابَهَ النِّكَاحَ) يَعْنِي إذَا شَابَهَ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ هُنَا كَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ (وَكَذَلِكَ الطَّعَامُ وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ) كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ عَلَى مِائَةِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ (وَلَا يَضُرُّهُ جَهَالَةُ الْوَصْفِ) بِأَنْ لَمْ يَقُلْ إنَّهَا جَيِّدَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ رَبِيعِيَّةٌ أَوْ خَرِيفِيَّةٌ، فَإِنَّ جَهَالَةَ الْوَصْفِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ لِكَوْنِهَا يَسِيرَةً. قَالَ (وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ صَحَّ وَصَارَ مَأْذُونًا) وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتَ حُرٌّ؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَحَّ أَنَّهُ يُعْتَقُ عِنْدَ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي الِانْتِهَاءِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِنَّمَا صَارَ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّهُ رَغَّبَهُ فِي الِاكْتِسَابِ بِطَلَبِهِ الْأَدَاءَ مِنْهُ، وَمُرَادُهُ التِّجَارَةُ دُونَ التَّكَدِّي فَكَانَ إذْنًا لَهُ دَلَالَةً.
الشَّرْحُ:
وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ صَحَّ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ: أَعْنِي قَوْلَهُ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتَ حُرٌّ صِيغَةُ التَّعْلِيقِ فَيَتَعَلَّقُ عِتْقُهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَبُولِ الْعَبْدِ وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ كَمَا فِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ.
وَقَوْلُهُ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مُكَاتَبًا) يَعْنِي لَا تَثْبُتُ أَحْكَامُ الْمُكَاتَبِينَ، حَتَّى لَوْ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً فَالْمَالُ لِمَوْلَاهُ وَلَا يُؤَدِّي عَنْهُ، وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى فَالْعَبْدُ رَقِيقٌ يُورَثُ عَنْهُ مَعَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ أَكْسَابِهِ، وَلَوْ كَاتَبَ أَمَةً فَوَلَدَتْ ثُمَّ أَدَّتْ لَمْ يُعْتَقْ وَلَدُهَا، وَلَوْ حَطَّ الْمَالَ أَوْ أَبْرَأَهُ الْمَوْلَى لَمْ يُعْتَقْ، وَلَوْ كَانَ مُكَاتَبًا لَكَانَ الْحُكْمُ عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَ فِي الْجَمِيعِ.
وَقَوْلُهُ (وَمُرَادُهُ التِّجَارَةُ) يَعْنِي مِنْ التَّرْغِيبِ فِي الِاكْتِسَابِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَشْرُوعَةُ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ (دُونَ التَّكَدِّي) لِأَنَّهُ يُدْنِئُ الْمَرْءَ وَيَخُسُّهُ. (وَإِنْ أَحْضَرَ الْمَالَ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى قَبْضِهِ وَعَتَقَ الْعَبْدُ) وَمَعْنَى الْإِجْبَارِ فِيهِ وَفِي سَائِرِ الْحُقُوقِ أَنَّهُ يَنْزِلُ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ يَمِينٍ إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَفْظًا، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْعَبْدِ وَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَلَا جَبْرَ عَلَى مُبَاشَرَةِ شُرُوطِ الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ وَالْبَدَلُ فِيهَا وَاجِبٌ.
وَلَنَا أَنَّهُ تَعْلِيقٌ نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ وَمُعَاوَضَةٌ نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّهُ مَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْأَدَاءِ إلَّا لِيَحُثَّهُ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ فَيَنَالَ الْعَبْدُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَوْلَى الْمَالَ بِمُقَابَلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ، وَلِهَذَا كَانَ عِوَضًا فِي الطَّلَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ حَتَّى كَانَ بَائِنًا فَجَعَلْنَاهُ تَعْلِيقًا فِي الِابْتِدَاءِ عَمَلًا بِاللَّفْظِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَوْلَى حَتَّى لَا يَمْتَنِعَ عَلَيْهِ بَيْعُهُ، وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَجَعَلْنَاهُ مُعَاوَضَةً فِي الِانْتِهَاءِ عِنْدَ الْأَدَاءِ دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنْ الْعَبْدِ حَتَّى يُجْبَرَ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ، فَعَلَى هَذَا يَدُورُ الْفِقْهُ وَتَخْرُجُ الْمَسَائِلُ نَظِيرُهُ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ.
وَلَوْ أَدَّى الْبَعْضَ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ الْكُلَّ لِعَدَمِ الشَّرْطِ كَمَا إذَا حَطَّ الْبَعْضَ وَأَدَّى الْبَاقِيَ.
ثُمَّ لَوْ أَدَّى أَلْفًا اكْتَسَبَهَا قَبْلَ التَّعْلِيقِ رَجَعَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ وَعَتَقَ لِاسْتِحْقَاقِهَا، وَلَوْ كَانَ اكْتَسَبَهَا بَعْدَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَتِهِ بِالْأَدَاءِ مِنْهُ، ثُمَّ الْأَدَاءُ فِي قَوْلِهِ إنْ أَدَّيْت يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ تَخْيِيرٌ، وَفِي قَوْلِهِ إذَا أَدَّيْت لَا يَقْتَصِرُ؛ لِأَنَّ إذَا تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ بِمَنْزِلَةِ مَتَى.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَفِي سَائِرِ الْحُقُوقِ) يُرِيدُ بِهِ الثَّمَنَ وَبَدَلَ الْخُلْعِ وَبَدَلَ الْكِتَابَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا.
وَقَوْلُهُ (أَنَّهُ) يَعْنِي الْمَوْلَى (يَنْزِلُ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ) بِرَفْعِ الْمَانِعِ سَوَاءٌ قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِجْبَارِ مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ الْإِكْرَاهِ بِالضَّرْبِ أَوْ الْحَبْسِ، وَقَوْلُهُ (إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَفْظًا) احْتِرَازٌ عَنْ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَعْلِيقٍ لَفْظِيٍّ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا مِنْ الْمَالِ صَحَّتْ الْكِتَابَةُ وَلَيْسَ فِيهِ تَعْلِيقٌ لَفْظِيٌّ.
لِعَدَمِ أَلْفَاظِ الشَّرْطِ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْعَبْدِ) تَوْضِيحٌ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفَ يَمِينٍ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا جَبْرَ عَلَى مُبَاشَرَةِ شُرُوطِ الْأَيْمَانِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ يَمِينٍ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ) تَقْرِيرُهُ: لَا جَبْرَ إلَّا بِاسْتِحْقَاقٍ وَلَا اسْتِحْقَاقَ (قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ) وَلِهَذَا يُمْكِنُهُ الْبَيْعُ قَبْلَ الْأَدَاءِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَفْظًا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ (مُعَاوَضَةٌ وَالْبَدَلُ فِيهَا وَاجِبٌ) فَكَانَ الْجَبْرُ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ (وَلَنَا أَنَّهُ تَعْلِيقٌ نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ) كَمَا ذَكَرْنَا (وَمُعَاوَضَةٌ نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ لِأَنَّهُ مَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْأَدَاءِ إلَّا لِيَحُثَّهُ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ فَيَنَالُ الْعَبْدُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَوْلَى الْمَالَ بِمُقَابَلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ وَلِهَذَا كَانَ عِوَضًا فِي الطَّلَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ) بِأَنْ يَقُولَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ (حَتَّى) لَوْ طَلَّقَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ (كَانَ بَائِنًا فَجَعَلْنَاهُ تَعْلِيقًا فِي الِابْتِدَاءِ عَمَلًا بِاللَّفْظِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَوْلَى حَتَّى لَا يَمْتَنِعَ عَلَيْهِ بَيْعُهُ وَلَا يَكُونَ الْعَبْدُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَلَا يَسْرِيَ إلَى الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَجَعَلْنَاهُ مُعَاوَضَةً فِي الِانْتِهَاءِ عِنْدَ الْأَدَاءِ دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنْ الْعَبْدِ) فَإِنَّهُ مَا تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ فِي اكْتِسَابِ الْمَالِ إلَّا لِيَنَالَ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ فَيُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُعَاوَضَةً أَصْلًا لِأَنَّ الْبَدَلَ وَالْمُبْدَلَ كِلَاهُمَا عِنْدَ الْأَدَاءِ مِلْكٌ لِلْمَوْلَى، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ عَبْدٌ وَهُوَ وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ عِنْدَ الْأَدَاءِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا ثَبَتَ شَرْطُ صِحَّتِهِ اقْتِضَاءً وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ أَحَقَّ بِالْمُؤَدَّى فَيَثْبُتُ هَذَا سَابِقًا عَلَى الْأَدَاءِ مَتَى وُجِدَ الْأَدَاءُ وَصَارَ كَمَا إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَكَانَ اكْتَسَبَ مَالًا قَبْلَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ أَحَقَّ بِذَلِكَ الْمَالِ، حَتَّى لَوْ أَدَّى ذَلِكَ عَتَقَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهِ مَنْسُوبًا إلَى مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ ثُبُوتَ مَعْنَى الْكِتَابَةِ هُوَ الْمُعَارِضُ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهِ.
وَالثَّانِي أَنَّ حُصُولَ شَرْطِ صِحَّةِ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ لَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ فَضْلًا عَنْ حُصُولِهِ اقْتِضَاءً، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُمْ قَائِمٌ فِيهَا وَهِيَ مُعَاوَضَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيقِ، فَلَأَنْ يَصِحَّ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ وَفِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ أَوْلَى فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِالْكِتَابَةِ دَلَالَةً وَقَوْلُهُ (فَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى الْعَمَلِ بِالشَّبَهَيْنِ (يَدُورُ الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ وَتَخْرِيجُ الْمَسَائِلِ) الْمُتَعَارِضَةِ: يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتَ حُرٌّ أَلْحَقَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِمَحْضِ التَّعْلِيقِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَسَائِلِ الْقِيَاسِ مِنْ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَأَلْحَقَ فِي بَعْضِهَا بِالْكِتَابَةِ مِنْ جَبْرِ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ تَعْلِيقًا نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ وَمُعَاوَضَةً نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ عَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ: شَبَهِ التَّعْلِيقِ فِي حَالَةِ الِابْتِدَاءِ وَشَبَهِ الْمُعَاوَضَةِ فِي حَالَةِ الِانْتِهَاءِ.
كَمَا فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَإِنَّهَا هِبَةٌ ابْتِدَاءً حَتَّى لَمْ تَجُزْ فِي الْمُشَاعِ، وَاشْتَرَطَ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ وَبِيعَ انْتِهَاءً حَتَّى لَمْ يَتَمَكَّنْ الْوَاهِبُ مِنْ الرُّجُوعِ وَجَرَتْ الشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ وَيَرُدُّ بِالْعَيْبِ، وَلَوْ أَدَّى الْبَعْضَ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ لِأَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ بَعْضُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ الْإِجْبَارُ عَلَى قَبُولِ الْكُلِّ ثَبَتَ فِي الْبَعْضِ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الزِّيَادَاتِ، وَقِيلَ هُوَ اسْتِحْسَانٌ.
وَمَا ذُكِرَ فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْبَعْضِ لِأَنَّ مَعْنَى الْكِتَابَةِ عِنْدَنَا يَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَتَقَ بِمَا أَدَّاهُ إلَى الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ أَدَاءُ جَمِيعِ الْمَالِ لَا يَثْبُتُ مَعْنَى الْكِتَابَةِ هُوَ الْقِيَاسُ، لَا أَنَّهُ بِأَدَاءِ الْبَعْضِ لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ الْكُلَّ لِعَدَمِ الشَّرْطِ، كَمَا إذَا حَطَّ الْبَعْضَ وَأَدَّى الْبَعْضَ الْبَاقِيَ، لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجُودُ الْجَمِيعِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ بَعْضُهُ كَانَ كَمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ كُلُّهُ، وَإِذَا حَطَّ الْجَمِيعَ لَمْ يُعْتَقْ لِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ فَكَذَلِكَ هَذَا، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمَالَ هُنَاكَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَيَتَحَقَّقُ إبْرَاؤُهُ عَنْهُ سَوَاءٌ أَبْرَأَهُ عَنْ الْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ، وَلَوْ أَدَّى أَلْفًا اكْتَسَبَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ رَجَعَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ وَعَتَقَ، أَمَّا الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ أُخْرَى مِثْلِهَا فَلِأَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي أَدَّاهَا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِأَدَائِهِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يَحُثَّهُ عَلَى الِاكْتِسَابِ لِيُؤَدِّيَ مِنْ كَسْبِهِ فَيَمْلِكُ الْمَوْلَى مَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ قَبْلَ هَذَا وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا أَنَّهُ عَتَقَ فَلِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ لِمَا أَنَّ كَوْنَ الْأَلْفِ مُسْتَحَقَّةً لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ شَرْطَ الْحِنْثِ كَمَا لَوْ غَصَبَ مَالَ إنْسَانٍ وَأَدَّاهُ (ثُمَّ الْأَدَاءُ فِي قَوْلِهِ إنْ أَدَّيْت يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ) وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ كَمَا فِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُخَيَّرُ الْعَبْدُ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْهُ فَكَانَ كَالتَّخْيِيرِ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَدَاءُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمَجْلِسِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِذْنَ يَكُونُ فِي صُورَةِ إذَا أَدَّيْت أَوْ مَتَى أَدَّيْت، فَإِنَّ الْأَدَاءَ فِيهِمَا لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ، وَيَقْتَصِرُ الْأَدَاءُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَيَتَّجِرُ فِيهِ وَيُؤَدِّي الْمَالَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِالْأَبْدَانِ (وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ) لِإِضَافَةِ الْإِيجَابِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ غَدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ حَيْثُ يَكُونُ الْقَبُولُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ التَّدْبِيرِ فِي الْحَالِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْمَالُ لِقِيَامِ الرِّقِّ.
قَالُوا: لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، وَإِنْ قَبِلَ بَعْدِ الْمَوْتِ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْإِعْتَاقِ، وَهَذَا صَحِيحٌ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ) لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إضَافَةُ إيجَابِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِئَلَّا يَقَعَ الْقَبُولُ قَبْلَ الْإِيجَابِ (فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ غَدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ) لِأَنَّهُ إضَافَةُ إيجَابِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ إلَى زَمَانٍ وَالْقَبُولُ مُتَأَخِّرٌ إلَيْهِ لِئَلَّا يَقَعَ قَبْلَ الْإِيجَابِ (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ حَيْثُ يَكُونُ الْقَبُولُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ إيجَابَ التَّدْبِيرِ فِي الْحَالِ) عَلَى مَا سَيَجِيءُ فَيَكُونُ الْقَبُولُ كَذَلِكَ (إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْمَالُ) مَعَ قَبُولِهِ (لِقِيَامِ الرِّقِّ) إذْ التَّدْبِيرُ يُوجِبُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَا حَقِيقَتَهَا فَيَكُونُ الرِّقُّ قَائِمًا وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ دَيْنًا عَلَى عَبْدِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَالُ يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَوْلَى قَدْ يَسْتَوْجِبُ مَالًا عَلَى مُعْتَقِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَا لَمْ يَجِبْ الْمَالُ فِي الْمُدَبَّرِ عَلَى أَلْفٍ مَا الْفَائِدَةُ فِي تَعْلِيقِ التَّدْبِيرِ بِالْقَبُولِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهَا بَيَانُ أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالْقَبُولِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْمَالُ.
وَقَوْلُهُ (قَالُوا) يَعْنِي الْمَشَايِخَ (لَا يُعْتَقُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ) أَيْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهِيَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ (وَإِنْ قَبِلَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ) أَوْ الْوَصِيُّ أَوْ الْقَاضِي (لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْإِعْتَاقِ) فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) أَيْ قَوْلُهُمْ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ (صَحِيحٌ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إيجَابٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَهْلِيَّةُ الْمُوجِبِ شَرْطٌ عِنْدَ الْإِيجَابِ وَقَدْ عُدِمَتْ بِالْمَوْتِ، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ إيجَابٌ فِي الْحَالِ وَالْأَهْلِيَّةُ ثَابِتَةٌ وَالْمَوْتُ شَرْطٌ وَالْأَهْلِيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَوُجِدَ الشَّرْطُ وَهُوَ مَجْنُونٌ، وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَالتَّدْبِيرِ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَقْ إلَّا بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ الْعِتْقُ مُعَلَّقًا بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا لَا يُعْتَقُ إلَّا بِإِعْتَاقِ الْوَارِثِ لِانْتِقَالِ الْعَبْدِ إلَى مِلْكِ الْوَارِثِ قَبْلَ الْقَبُولِ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّ عِتْقَهُ تَعَلَّقَ بِنَفْسِ الْمَوْتِ فَلَا يُشْتَرَطُ إعْتَاقُ الْوَارِثِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مَعْنَاهُ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفٍ فَيَكُونُ كَمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ مَعْنًى فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي الْحَالِ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْقَبُولُ أَيْضًا فِيهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا يَمِينٌ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ، وَفِي الْأَيْمَانِ يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ إضَافَةُ الْحُرِّيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَفْظًا فَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ بَعْدَهُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَضَافَ الْحُرِّيَّةَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَفْظًا فَيُشْتَرَطُ الْقَبُولُ بَعْدَهُ. قَالَ: (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ فَقَبِلَ الْعَبْدُ فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ فِي مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ قِيمَةُ خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ) أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْخِدْمَةَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ عِوَضًا فَيَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِالْقَبُولِ، وَقَدْ وُجِدَ وَلَزِمَهُ خِدْمَةُ أَرْبَعِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ عِوَضًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ فَالْخِلَافِيَّةُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى خِلَافِيَّةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ مَنْ بَاعَ نَفْسَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِجَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الْجَارِيَةُ أَوْ هَلَكَتْ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُمَا وَبِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ عِنْدَهُ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ.
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّهُ كَمَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْجَارِيَةِ بِالْهَلَاكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَى الْخِدْمَةِ بِمَوْتِ الْعَبْدِ، وَكَذَا بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَصَارَ نَظِيرَهَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ) أَيْ وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَنْ تَخْدُمَنِي أَرْبَعَ سِنِينَ (فَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ، فَلَوْ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ فِي مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: الْأَوَّلُ عَلَيْهِ قِيمَةُ خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ.
أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّ الْخِدْمَةَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ جُعِلَتْ عِوَضًا عَنْ الْعِتْقِ) وَكُلُّ مَا جُعِلَ عِوَضًا عَنْ الْعِتْقِ فَالْعِتْقُ يَتَعَلَّقُ بِقَبُولِهِ لِأَنَّهُ الْحُكْمُ فِي الْأَعْوَاضِ كُلِّهَا، وَقَدْ وُجِدَ الْقَبُولُ فَنَزَلَ الْعِتْقُ وَلَزِمَهُ خِدْمَةُ أَرْبَعِ سِنِينَ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ عِوَضًا لِحُدُوثِ حُكْمِ الْمَالِيَّةِ بِالْعَقْدِ وَلِهَذَا صَلُحَتْ صَدَاقًا مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ ابْتِغَاءَ الْأَبْضَاعِ بِالْأَمْوَالِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ فَالْخِلَافِيَّةُ بِنَاءً عَلَى خِلَافِيَّةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ مَنْ بَاعَ نَفْسَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِجَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْجَارِيَةَ أَوْ هَلَكَتْ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُمَا وَبِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ عِنْدَهُ وَهِيَ) أَيْ مَسْأَلَةُ بَيْعِ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ بِالْجَارِيَةِ إذَا اُسْتُحِقَّتْ (مَعْرُوفَةٌ) فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَجْهَ الْبِنَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ وَجْهَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ ذَلِكَ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْخِدْمَةَ بَدَلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ الْعِتْقُ وَلَا قِيمَةَ لِلْعِتْقِ، وَقَدْ حَصَلَ الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِ الْخِدْمَةِ بِمَوْتِهِ فَوَجَبَ تَسْلِيمُ قِيمَتِهَا.
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْخِدْمَةَ بَدَلُ مَالٍ لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِ الْعَبْدِ لَكِنْ الْبَدَلُ لَمَّا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ وَهُوَ الْعَبْدُ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَوَجَبَ تَسْلِيمُ قِيمَتِهِ لِإِمْكَانِ ذَلِكَ هَذَا فِي الْمَبْنِيِّ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مُنَاقِضٌ لِمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ أَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ مِنْ وَجْهٍ لِمَا ذَكَرْنَا، وَشَابَهَ بِذَلِكَ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَغَيْرَهُمَا حَتَّى صَحَّ بِأَيِّ مَالٍ كَانَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ مِنْ وَجْهٍ بِالنَّظَرِ إلَى مَوْلَاهُ وَشَابَهَ بِذَلِكَ بَيْعَ عَبْدٍ بِجَارِيَةٍ، فَإِنَّهُ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ وَوَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى الْجَارِيَةِ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
وَأَمَّا الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ فَوَجْهُ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا بَدَلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ الْعِتْقُ، لِأَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ إعْتَاقٌ وَقَدْ عَجَزَ عَنْ إيفَاءِ الْبَدَلِ، وَلَيْسَ لِلْمُبْدَلِ وَهُوَ الْعِتْقُ قِيمَةٌ فَيَجِبُ قِيمَةُ الْبَدَلِ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجَارِيَةَ بَدَلُ نَفْسِ الْعَبْدِ بِالْعِتْقِ فَيَجِبُ تَسْلِيمُ قِيمَتِهِ، كَمَا إذَا تَبَايَعَا عَبْدًا بِجَارِيَةٍ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فَتَفَاسَخَا الْعَقْدَ عَلَى الْجَارِيَةِ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا بِمَوْتِ الْمَوْلَى) يَعْنِي أَنَّ مَوْتَ الْمَوْلَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَوْتِ الْعَبْدِ فَصَارَ نَظِيرَ الْمَسْأَلَةِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءً. (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: أَعْتِقْ أَمَتَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجْنِيهَا فَفَعَلَ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ فَالْعِتْقُ جَائِزٌ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآمِرِ)؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيَّ فَفَعَلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَيَقَعُ الْعِتْقُ عَلَى الْمَأْمُورِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ طَلِّقْ امْرَأَتَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيَّ فَفَعَلَ حَيْثُ يَجِبُ الْأَلْفُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَدَلِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فِي الطَّلَاقِ جَائِزٌ وَفِي الْعَتَاقِ لَا يَجُوزُ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
(وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ أَمَتَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا قُسِّمَتْ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَتِهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا، فَمَا أَصَابَ الْقِيمَةَ أَدَّاهُ الْآمِرُ، وَمَا أَصَابَ الْمَهْرَ بَطَلَ عَنْهُ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ عَنِّي تَضَمَّنَ الشِّرَاءُ اقْتِضَاءً عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَابَلَ الْأَلْفَ بِالرَّقَبَةِ شِرَاءً وَبِالْبُضْعِ نِكَاحًا فَانْقَسَمَ عَلَيْهِمَا، وَوَجَبَتْ حِصَّةُ مَا سَلَّمَ لَهُ وَهُوَ الرَّقَبَةُ وَبَطَلَ عَنْهُ مَا لَمْ يُسَلِّمْ وَهُوَ الْبُضْعُ، فَلَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ لَمْ يَذْكُرْهُ.
وَجَوَابُهُ أَنَّ مَا أَصَابَ قِيمَتَهَا سَقَطَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهِيَ لِلْمَوْلَى فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، وَمَا أَصَابَ مَهْرَ مِثْلِهَا كَانَ مَهْرًا لَهَا فِي الْوَجْهَيْنِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ أَعْتِقْ أَمَتَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيَّ) لَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَيَّ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ عَلَيَّ عَلَى الْوُجُوبِ وَذَكَرَ فِي بَعْضِهَا لِلتَّأْكِيدِ وَالْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةٌ: وَقَوْلُهُ (وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي فِي الْخُلْعِ فِي مَسْأَلَةِ خُلْعِ الْأَبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى وَجْهِ الْإِشَارَةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ فِي بَابِ الطَّلَاقِ كَالْمَرْأَةِ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ شَيْءٍ لَهُمَا بِالطَّلَاقِ، إذْ الثَّابِتُ بِهِ سُقُوطُ مِلْكِ الزَّوْجِ عَنْهَا لَا غَيْرُ، فَكَمَا جَازَ الْتِزَامُ الْمَرْأَةِ بِالْمَالِ فَكَذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ، بِخِلَافِ الْعَتَاقِ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ لِلْعَبْدِ بِالْإِعْتَاقِ قُوَّةً حُكْمِيَّةً لَمْ تَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَانَ الْمَالُ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْأَجْنَبِيُّ كَالْعَبْدِ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ بِهِ لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا فَكَانَ اشْتِرَاطُ الْبَدَلِ عَلَيْهِ كَاشْتِرَاطِ الثَّمَنِ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَجُوزُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَ أَعْتِقْ أَمَتَك عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا) أَيْ قَالَ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِيهَا فَفَعَلَ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ (قَسَمَتْ الْأَلْفَ عَلَى قِيمَتِهَا وَمَهْرِ مِثْلِهَا، فَمَا أَصَابَ الْقِيمَةَ أَدَّاهُ الْآمِرُ، وَمَا أَصَابَ الْمَهْرَ بَطَلَ عَنْهُ) وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا عُرِفَ) يَعْنِي فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِيهِ شُبْهَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ بَيْعٌ بِمَا يَخُصُّهَا مِنْ الْأَلْفِ لَوْ قَسَمَ عَلَيْهَا وَعَلَى مَنَافِعِ بُضْعِهَا وَهُوَ فَاسِدٌ، وَلِأَنَّهُ إدْخَالُ صَفْقَةِ النِّكَاحِ فِي صَفْقَةِ الْبَيْعِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ بِدُونِ الْقَبْضِ وَلَا مِلْكَ هَاهُنَا فَيَجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ الْعِتْقُ إذْ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْبَيْعَ إذَا كَانَ فَاسِدًا وَيَجِبُ فِيهِ الْعِوَضُ تَجِبُ قِيمَةُ الْمَبِيعِ كَامِلَةً، وَالْقَوْلُ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الثَّمَنِ إنَّمَا هُوَ مُوجِبُ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ وَبَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ فِي الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَأَجَابَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ عَنْ الْأُولَى بِأَنَّ الْأَمَةَ تَنْتَفِعُ بِهَذَا الْإِعْتَاقِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَصِيرُ قَابِضَةً نَفْسَهَا أَدْنَى قَبْضٍ، وَأَدْنَى الْقَبْضِ يَكْفِي فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَالْقَبْضِ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَنْ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ الْبَيْعَ مُنْدَرِجٌ فِي الْإِعْتَاقِ، فَأَخَذَ حُكْمَ الْإِعْتَاقِ فِي عَدَمِ الْفَسَادِ بِالشَّرْطِ فَلَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ بِشَرْطِ النِّكَاحِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الثَّمَنِ.
وَقَوْلُهُ (فَلَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ) يَعْنِي فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ (لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ) فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ مَا أَصَابَ قِيمَتَهَا سَقَطَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَقُلْ فِيهِ عَنِّي لِعَدَمِ صِحَّةِ الضَّمَانِ وَهِيَ لِلْمَوْلَى فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ عَنِّي، وَمَا أَصَابَ مَهْرَ مِثْلِهَا كَانَ مَهْرًا لِلْأَمَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ.

.(بَابُ التَّدْبِيرِ):

(إذَا قَالَ الْمَوْلَى لِمَمْلُوكِهِ إذْ مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي أَوْ أَنْتِ مُدَبَّرٌ أَوْ قَدْ دَبَّرْتُك فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا)؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحٌ فِي التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍ.
الشَّرْحُ:
بَابُ: التَّدْبِيرِ: ذِكْرُ الْإِعْتَاقِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْمَوْتِ عَقِيبَ الْإِعْتَاقِ الْوَاقِعِ فِي الْحَيَاةِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ.
وَالتَّدْبِيرُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ النَّظَرُ إلَى عَاقِبَةِ الْأَمْرِ.
وَفِي الشَّرِيعَةِ هُوَ إيجَابُ الْعِتْقِ الْحَاصِلِ بَعْدَ مَوْتِ الْإِنْسَانِ بِأَلْفَاظٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ صَرِيحًا كَقَوْلِهِ دَبَّرْتُكَ أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ دَلَالَةً كَقَوْلِهِ إذَا مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ مَعَ مَوْتِي أَوْ فِي مَوْتِي، وَكَقَوْلِهِ أَوْصَيْت لَك بِنَفْسِك أَوْ بِرَقَبَتِك أَوْ بِثُلُثِ مَالِي.
وَحُكْمُ التَّدْبِيرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا إلَى الْحُرِّيَّةِ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ، فَإِذَا مَاتَ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَتَقَ ثُلُثُهُ وَسَعَى فِي ثُلُثَيْهِ (ثُمَّ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا إلَى الْحُرِّيَّةِ) كَمَا فِي الْكِتَابَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَمْتَنِعُ بِهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ وَكَمَا فِي الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَهِيَ غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ» وَلِأَنَّهُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا سَبَبَ غَيْرَهُ؛ ثُمَّ جَعَلَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ أَوْلَى لِوُجُودِهِ فِي الْحَالِ وَعَدَمِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَالُ بُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ فَلَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَى زَمَانِ بُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ، بِخِلَافِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ السَّبَبِيَّةِ قَائِمٌ قَبْلَ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ وَالْيَمِينُ مَانِعٌ وَالْمَنْعُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَأَنَّهُ يُضَادُّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَأَمْكَنَ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَى زَمَانِ الشَّرْطِ؛ لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَهُ فَافْتَرَقَا؛ وَلِأَنَّهُ وَصِيَّةُ خِلَافَةٍ فِي الْحَالِ كَالْوِرَاثَةِ وَإِبْطَالُ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ، وَفِي الْبَيْعِ وَمَا يُضَاهِيهِ ذَلِكَ.
الشَّرْحُ:
(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَمْتَنِعُ بِهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ) مِنْ دُخُولِ الدَّارِ وَمَجِيءِ رَأْسِ الشَّهْرِ وَغَيْرِهِمَا (وَكَمَا فِي الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ) فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ (وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ) حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ وَالْوَصِيَّةُ لَا تَمْنَعُ الْمُوصِيَ مِنْ التَّصَرُّفِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَمَا أَوْصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ (وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ») رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ التَّدْبِيرُ (سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ) فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ (وَلَا سَبَبَ غَيْرُهُ) ثُمَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي الْحَالِ أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ حَالَ بُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ فِي الْحَالِ مَوْجُودٌ وَبَعْدَ الْمَوْتِ مَعْدُومٌ لِكَوْنِ كَلَامِهِ عَرَضًا لَا يَبْقَى فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي الْحَالِ: وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُنَاقِضٌ لِمَا ذُكِرَ فِي آخِرِ بَابِ الْعَبْدِ يُعْتَقُ بَعْضُهُ حَيْثُ قَالَ: وَفِي الْمُدَبَّرِ يَنْعَقِدُ السَّبَبُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَأَقُولُ قَوْلُهُ (ثُمَّ جَعْلُهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ أَوْلَى) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَعْلَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ، فَيُحْمَلُ مَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ عَلَى غَيْرِ الْأَوْلَى فَيَنْدَفِعُ التَّنَاقُضُ وَيَكُونُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى رِوَايَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ اخْتَارَ جَوَازَهُ بِاجْتِهَادِهِ وَجَعْلُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَصْحَابُ أَوْلَى.
فَإِنْ قِيلَ: فِي التَّدْبِيرِ تَعْلِيقٌ، وَلَيْسَ فِي التَّعْلِيقِ شَيْءٌ مِنْ السَّبَبِ ثَابِتًا فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَمَا بَالُ التَّدْبِيرِ خَالَفَ سَائِرَ التَّعْلِيقَاتِ وَهُوَ مُؤَدَّى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ السَّبَبِيَّةِ قَائِمٌ فِيهِ قَبْلَ الشَّرْطِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ غُمُوضًا لَا يَنْكَشِفُ عَلَى وَجْهِ التَّحْصِيلِ إلَّا بِزِيَادَةِ بَيَانٍ فَلَا بُدَّ مِنْهَا، فَنَقُولُ: الْمَانِعُ هُوَ مَا يَنْتَفِي بِهِ الشَّيْءُ مَعَ قِيَامِ مُقْتَضِيهِ، وَكُلُّ مَا يُنَافِي اللَّازِمَ يُنَافِي الْمَلْزُومَ، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا قُلْنَا الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ سَائِرُ التَّعْلِيقَاتِ أَسْبَابًا فِي الْحَالِ لَكِنْ الْمَانِعُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ فِي الْحَالِ وَهُوَ صِفَةُ كَوْنِ تَصَرُّفِ التَّعْلِيقِ يَمِينًا قَائِمٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَانِعٌ عَنْ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ اللَّازِمِ لِلْحُكْمِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ، وَمَا كَانَ مَانِعًا عَنْ تَحَقُّقِ اللَّازِمِ الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ كَانَ مَانِعًا عَنْ تَحَقُّقِ الْمَلْزُومِ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَإِنَّهُ يُضَادُّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَمَا كَانَ مَانِعًا لِلْحُكْمِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَهُ فَصِفَةُ كَوْنِ تَصَرُّفِ التَّعْلِيقِ يَمِينًا تَمْنَعُ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْحُكْمِ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ يَكُونُ الْيَمِينُ يُعْقَدُ لِلْحَمْلِ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَدْ نَصَّ فِي الْكُتُبِ أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ أَوْ الْحَمْلِ فَكَيْفَ قَالَ: وَالْمَنْعُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْحَصْرَ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ؟ قُلْت: لَا يُقْصَدُ بِالْيَمِينِ إلَّا مَنْعُ الشَّرْطِ، وَالشَّرْطُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ هُوَ النَّفْيُ وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَنْعُ مِنْهُ وَيَلْزَمُهُ الْحَمْلُ.
فَإِنْ قُلْت: التَّدْبِيرُ يَمِينٌ أَوْ لَيْسَ بِيَمِينٍ، فَإِنْ كَانَ يَمِينًا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا لِقِيَامِ الْمَانِعِ عَلَى مَا قَرَّرْتُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لَمْ يَسْتَقِمْ قَوْلُهُ بِخِلَافِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ إذْ السَّائِرُ بِمَعْنَى الْبَاقِي.
قُلْت: لَيْسَ بِيَمِينٍ لِتَعَلُّقِ عِتْقِهِ بِأَمْرٍ كَائِنٍ، وَاسْتِقَامَةُ إطْلَاقِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْيَمِينُ أَخَصَّ مِنْ التَّعْلِيقِ.
وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا جَاءَ غَدٌ فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ بِأَمْرٍ كَائِنٍ وَلَيْسَ بِسَبَبٍ فِي الْحَالِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إضَافَةٌ لَا تَعْلِيقٌ.
وَقَوْلُهُ (وَأَمْكَنَ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَى زَمَانِ الشَّرْطِ) لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ فَرْقٌ آخَرُ بَيْنَ التَّدْبِيرِ وَسَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُمْكِنُ فِيهِ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ انْتِفَاءِ أَهْلِيَّةِ الْإِيجَابِ حِينَئِذٍ.
وَأَمَّا سَائِرُ التَّعْلِيقَاتِ فَتَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ فِيهِ إلَى زَمَانِ الشَّرْطِ مُمْكِنٌ لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَهُ فَافْتَرَقَا.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ قِيَامَ الْأَهْلِيَّةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ جُنَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ قِيَامَ أَهْلِيَّتِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إذَا لَمْ يَكُنْ التَّعْلِيقُ ابْتِدَاءً بِحَالِ بُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ كَمَا ذَكَرْتُمْ فِي صُورَةِ الْمَجْنُونِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَهْلِيَّةَ إذْ ذَاكَ غَيْرُ شَرْطٍ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ خِلَافَةٌ فِي الْحَالِ) فَرْقٌ آخَرُ بَيْنَهُمَا.
وَتَقْرِيرُهُ: التَّدْبِيرُ الْمُطْلَقُ وَصِيَّةٌ، وَالْوَصِيَّةُ سَبَبُ الْخِلَافَةِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ يَجْعَلُ الْمُوصَى لَهُ خَلَفًا فِي بَعْضِ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالْوِرَاثَةِ فَإِنَّهَا سَبَبُ خِلَافَةٍ فِي الْحَالِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَصِيَّةً لَبَطَلَ إذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ سَيِّدَهُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ لَا تَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، وَلَجَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمُوصِيَ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْمُوصَى بِهِ وَيَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْوَصِيَّةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا جَمِيعًا أَنَّ ذَلِكَ فِي وَصِيَّةٍ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيقِ لِأَنَّهَا الْوَصِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ وَالتَّدْبِيرُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَوَجْهُ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ أَنَّ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ بِالْقَتْلِ وَجَوَازَ الْبَيْعِ وَكَوْنَهُ رُجُوعًا إنَّمَا يَصِحُّ فِي مُوصًى بِهِ يَقْبَلُ الْفَسْخَ وَالْبُطْلَانَ وَالتَّدْبِيرَ لِكَوْنِهِ إعْتَاقًا لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَإِبْطَالُ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ) تَتِمَّةُ الدَّلِيلِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةُ وَمَا بَيْنَهُمَا لِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَتَرْكِيبِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، هَكَذَا التَّدْبِيرُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ، وَسَبَبُ الْحُرِّيَّةِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ، وَفِي الْبَيْعِ وَمَا يُشَابِهُهُ مِنْ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِمْهَارِ ذَلِكَ أَيْ إبْطَالُ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يَجُوزُ. قَالَ: (وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَيُؤَاجِرَهُ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وَطِئَهَا وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا)؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ ثَابِتٌ لَهُ وَبِهِ تُسْتَفَادُ وِلَايَةُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَيُؤَاجِرَهُ) التَّدْبِيرُ لَا يُثْبِتُ الْحُرِّيَّةَ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا يُثْبِتُ اسْتِحْقَاقَ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَ الْمِلْكُ فِيهِ ثَابِتًا، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ دَخَلَ فِيهِ الْمُدَبَّرُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَيُؤَاجِرَهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وَطِئَهَا وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِأَنَّ وِلَايَةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِالْمِلْكِ وَهُوَ ثَابِتٌ (فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ الْمُدَبَّرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ) لِمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مُضَافٌ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ وَالْحُكْمُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ فَيَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ يَسْعَى فِي كُلِّ قِيمَتِهِ؛ لِتَقَدُّمِ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُ الْعِتْقِ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ.
الشَّرْحُ:
فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ الْمُدَبَّرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِمَا رَوَيْنَا يَعْنِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ» (وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ لِكَوْنِهِ تَبَرُّعًا مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ) وَلَا نَعْنِي بِالْوَصِيَّةِ إلَّا ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ يَعْنِي الْعِتْقَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ اسْتِحْقَاقَ الْحُرِّيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، وَكُلُّ وَصِيَّةٍ تَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ رَقَبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ يَسْعَى فِي كُلِّ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْعِتْقُ لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ. (وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ) وَعَلَى ذَلِكَ نُقِلَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ) هَذِهِ هِيَ النُّسْخَةُ الصَّحِيحَةُ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَوَلَدُ الْمُدَبَّرِ مُدَبَّرٌ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُدَبَّرِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَالْأَوَّلُ رَقِيقٌ لِمَوْلَاهَا، وَالثَّانِي يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي التَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَغَيْرِهِمَا دُونَ الْأَبِ.
وَأَمَّا وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ فَهُوَ مُدَبَّرٌ نَقَلَ عَلَى ذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَخُوصِمَ إلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَوْلَادِ مُدَبَّرَةٍ فَقَضَى بِأَنَّ مَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ عَبْدٌ يُبَاعُ، وَمَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ فَهُوَ مِثْلُهَا لَا يُبَاعُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ خِلَافٌ (وَإِنْ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِمَوْتِهِ عَلَى صِفَةٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ سَفَرِي هَذَا أَوْ مِنْ مَرَضِ كَذَا فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ)؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي الْحَالِ لِتَرَدُّدٍ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ (فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا عَتَقَ كَمَا يُعْتَقُ الْمُدَبَّرُ) مَعْنَاهُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حُكْمُ التَّدْبِيرِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ؛ لِتَحَقُّقِ تِلْكَ الصِّفَةِ فِيهِ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ.
وَمِنْ الْمُقَيَّدِ أَنْ يَقُولَ إنْ مِتُّ إلَى سَنَةٍ أَوْ عَشْرِ سِنِينَ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ وَمِثْلُهُ لَا يَعِيشُ إلَيْهِ فِي الْغَالِبِ؛ لِأَنَّهُ كَالْكَائِنِ لَا مَحَالَةَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِمَوْتِهِ) بَيَانٌ لِلْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ وَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ التَّدْبِيرَ بِمَوْتِهِ عَلَى صِفَةٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ مِتّ مِنْ مَرَضِي أَوْ سَفَرِي أَوْ مَرَضِ كَذَا فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي الْحَالِ لِلتَّرَدُّدِ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ فَرُبَّمَا يَرْجِعُ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ وَيَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ.
وَتَحْقِيقُهُ يُسْتَفَادُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِهِ إذَا كَانَ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ كَانَ بِمَعْنَى الْيَمِينِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ صِفَةَ كَوْنِهِ يَمِينًا يَمْنَعُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ أَمْرًا كَائِنًا لَا مَحَالَةَ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ فَكَانَ سَبَبًا.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَنْعَقِدْ السَّبَبُ فِي الْحَالِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَنْعَقِدُ إذَا انْعَقَدَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ بِحَالِ أَهْلِيَّةِ الْإِيجَابِ، وَإِنْ انْعَقَدَ قَبْلَهُ كَيْفَ يَجُوزُ بَيْعُهُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا عَتَقَ كَمَا يُعْتَقُ الْمُدَبَّرُ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُ التَّدْبِيرِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ لِتَحَقُّقِ تِلْكَ الصِّفَةِ حِينَئِذٍ، وَإِنْ عَاشَ بَطَلَ التَّدْبِيرُ وَمِنْ الْمُقَيَّدِ أَنْ يَقُولَ إنْ مِتّ إلَى سَنَةٍ أَوْ عَشْرَةِ سِنِينَ لِمَا ذَكَرْنَا يَعْنِي قَوْلَهُ لِلتَّرَدُّدِ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ، وَمِثْلُهُ لَا يَعِيشُ إلَيْهِ فِي الْغَالِبِ لِأَنَّهُ كَالْكَائِنِ لَا مَحَالَةَ) وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُنْتَقَى، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي نَوَازِلِهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إنْ مِتّ إلَى مِائَتَيْ سَنَةٍ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: هَذَا مُدَبَّرٌ مُقَيَّدٌ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ مُدَبَّرٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ لَوْ مَاتَ قَبْلَ السَّنَةِ فِي الْأَوَّلِ أَوْ قَبْلَ عَشْرِ سِنِينَ فِي الثَّانِي عَتَقَ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَهُمَا لَمْ يُعْتَقْ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فِي الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.